إعداد: محمد خيري الخلَّال
جميعنا سمع عن المحقق الشهير "شيرلوك هولمز"، المخبر البوليسي المتأنق ذي العينين الثاقبتين والأنف المعقوف والغليون الذي لا يفارق شفتيه، تلك الشخصية الروائية الخالدة التي ابتكرها الكاتب الإنجليزي السير "آرثر كونان دويل". ذلك الطبيب الاسكتلندي المولد (البريطاني الجنسية) الذي جذبه الأدب إلى عالمه السحري، فبدأ بكتابة القصص القصيرة ونشرها في المجلات المحلية وهو لا يزال طالبًا بكلية الطب لم يتم عامه العشرين بعد، متأثرًا بكتابات "إدجار آلان بو" و"فرانسيس بريت هارت".
بعد تخرجه من الجامعة، وبعد عدة محاولات للعمل كطبيب على متن إحدى البواخر، يقرر الاستقرار واستئجار عيادة خاصة به ليبدأ فيها ممارسته الفعلية كطبيب مستقل. كان "دويل" يجاهد في تقسيم وقته بين أن يكون طبيبًا ناجحًا وبين أن يصبح كاتبًا معترفا به، فاستغل الوقت المتاح له في انتظار المرضى، في التفرغ لكتابة القصص.
دفعه تأثره بأستاذه العظيم د. "جوزيف بل"الجراح الموهوب والمحقق الجنائي الذي كان يتمتع بقدرة غير عادية على الاستنتاج – في وقت كان فيه علم الأدلة الجنائية حديثًا نسبيًا - إلى أن يحول هذه الشخصية من عالم الواقع إلى أكثر الشخصيات الأدبية شهرة. كما وجد كونان دويل مصدر إلهام لاسم شخصيته في مكان آخر. لقد كان لاعب كريكيت خبير، فقام بمزج اسم لاعبين مشهورين: شاكلوك Shacklock وشيروين Sherwin ، ليصنع اسم ‘شيرلوك’ ‘Sherlock’.
وما إن أطل عام 1886 حتى ظهرت أول قصة كتبها عن بطله "هولمز" في رواية بعنوان (دراسة في القرمزي). حققت الرواية نجاحًا منقطع النظير، وانجذب القراء إلى شخصية "شيرلوك هولمز" المحقق العبقري الذي يستخدم أحدث التقنيات لفحص الأدلة وتفسيرها والوصول إلى الجناة. ويقال إن "كونان دويل" نفسه قد اكتشف حلول العديد من الجرائم بمحاكاته لأسلوب "هولمز" في التحري. ورغم ذلك النجاح، استمر "دويل" بممارسة الطب ثمان سنوات كاملة إلى أن قرر بعدها هجر الطب والتفرغ لكتابة القصص البوليسية.
تتابعت فيما بعد رواياته وقصصه التي تدور حول مغامرات "شيرلوك هولمز"، وصار الإقبال عليها كاسحًا. وعلى مدار هذه القصص صار لهولمز سمات وعادات مميزة يعرفها جمهوره جيدًا؛ فهو نادراً ما يتناول وجبة الإفطار، وكان لديه ثلاثة أنابيب يستخدمها فى التدخين. هذا غير لازماته وطريقته في اللبس والأكل وأساليبه الشهيرة في تقصى الجرائم، فضلًا عن حبه للملاكمة والموسيقى، كل هذا خلق لدى القراء اعتقاد بأنه شخصية واقعية وليس مجرد شخصية خيالية.
وقد وصل الهوس به إلى حد زيارة الآلاف من الناس لمقر اقامته في شارع بيكر ستريت Baker Street في لندن، الذي صار أحد أكثر العناوين شهرة في العالم. كل هذا في وقت لا يكاد فيه أحد يعرف عن كونان دويل شيئًا، مما دفع بالنقاد الى الاعتقاد بأن "دويل" كان يعيش صراعًا نادرًا مع شخصيته المبتكرة، وتطغى عليه عقدة الشخصية المسيطرة، بل وينظر إليها بعين الحسد والغيرة بعدما رأى أنها حازت شهرة أكثر منه شخصيًا، فالناس منبهرة بـ"هولمز" وبأعمال "هولمز"، حتى إنهم أقاموا له معرضًا خاصًا في "إنجلترا"، وكونوا جمعية لأصدقائه، ودرست أجهزة التحقيق الجنائي في كل أرجاء العالم أساليبه وطبقتها، بينما لا أحد يلتفت إلى "آرثر كونان دويل" نفسه.
صار هولمز نموذج للشخصية الروائية التي تلتمع وتتألق حتى تطغى على شخصية كاتبها ذاته، وقد وصل الحال بـ"دويل" أن حاول صرف الناشرين عن طلب المزيد من مغامرات وقصص "شيرلوك هولمز" برفع مستحقاته المالية، لكنه وجد أنهم مستعدين لدفع المبالغ التي يطلبها، ونتيجة لذلك أصبح واحدًا من أغلى الكتاب أجرًا فى "بريطانيا" آنذاك. وفي إحدى زياراته لـ"سويسرا" قال أنه عثر على المكان الذي سوف ينهي فيه حياة بطله المفضل وسط شلالات "رايشنباخ"، ونشر بالفعل في ديسمبر عام 1893 تلك النهاية في روايته الشهيرة (المشكلة الأخيرة) ، فلاقى اعتراضات من جمهوره ومحبيه وصلت لحد تظاهر الآلاف أمام مبنى مكاتب المجلة البريطانية وإلغاء أكثر من 20 ألف قارئ اشتراكاتِهم فيها بعد هذا الموت المفاجئ، مما اضطره لإعادته للحياة من جديد عام 1894 في رواية (مغامرة المنزل الخالي).
غير أنه من الصعب أن يُقال إن "كونان دويل" كان يكره "شيرلوك هولمز" تمامًا، فقد رسم الشخصية بحب وحرص، إلا أنه قد استفزه أن تحجب شهرة قصص "هولمز" شهرة كتابات أخرى مهمة لديه تجاوز هدف التسلية ولم يأبه بها أحد مثل كتاب (الشركة البيضاء)، والذي قال عنه "دويل" غير مرة: «أنه يعادل مائة من كتب "شيرلوك هولمز"!».
حاول "كونان دويل" الفرار من أسر "شيرلوك هولمز" والتحرر من عباءته التي التصقت به لفترة، وذلك بابتكار شخصية البروفسور "تشلنجر"، وجعله بطلًا لسلسلة من روايات الخيال العلمي التي بدأت برواية (العالم المفقود).
البروفسور "تشلنجر" هو الشخصية المحورية في هذه الأعمال، وهي شخصية تستمد بعض جوانبها من المؤلف نفسه، وكانت الأقرب إلى قلبه، على عكس علاقته المضطربة بشخصيته الأخرى "هولمز"، فحاول تقديم "تشلنجر" ليحل محل "هولمز"، ويكون الممثل الحقيقي لاهتماماته، وهو مثله مثل ذلك اﻷخير مبني على شخصية حقيقية هو الأستاذ "ويليام ردزفورد" الذي كان يحاضر في جامعة "إدنبرة" عندما كان "دويل" يدرس الطب هناك.
يمكن وصفه بأنه العالم المتغطرس، الذي تتملكه الطموحات العلمية والشغف المتواصل لنيل المعرفة والاستكشاف، وعلى الرغم من أنه كثير التفاخر بذكائه وقدراته العقلية الفذة، إلا إنه لا يتوانى عن إظهار العنف والغجرية عندما تحين الفرصة، جالبًا الشرور والمخاطر لنفسه وللآخرين.
يعد "تشلنجر" إذن شخصية مغايرة تمامًا لشخصية "هولمز"، فالأول شخصية عصبية وعدوانية، أما الثاني فهو شخص مهذب ومحبوب، لكن ما يجمع بين الشخصيتين كان إيمانهما الشديد بالمنجزات العلمية، وهو ما كان يعكس إيمان "آرثر كونان دويل" نفسه. وقد نالت القصة رواجًا معقولًا دفعه إلى أن يقدم جزءًا ثانيًا تحت عنوان (النطاق المسموم) مع نفس الأبطال. فضلًا عن مجموعة من الكتابات الذاخرًة والمتنوعة، التي لم تقتصر على المغامرات والقصص البوليسية، فلديه العديد من الروايات التاريخية والمسرحيات والأشعار والكتابات الرومانسية؛ منها رواية (اللاجئون) و(سير نايجل) والعمل الأدبي التاريخي عالي القيمة (الشركة البيضاء).
لكن الحقيقة أن مغامرات "هولمز" كانت هي السبب المباشر في شهرة "دويل" بعد ذلك، الذي كان سيبقى مجرد طبيب أو كاتب محدود الشهرة لولا شخصية "شيرلوك هولمز"، التي تعتبر الأساس الذي بُنيت عليه الرواية البوليسية في القرن العشرين، والنموذج الأول والأصلي الذي نسج الآخرون على منواله. والشخصية الأكثر خلودًا وشهرة من كل أعماله، والدليل الأكبر على عبقرية الرجل وعلى موهبته التي أسعدت الملايين من القراء بكل اللغات. وفي المجمل ظهر "هولمز" في 56 قصة قصيرة وأربع روايات.