عالَم جديد شجاع.. مستقبل أكثر تشاؤمًا

عالَم جديد شجاع.. مستقبل أكثر تشاؤمًا

إعداد: محمد خيري الخلَّال

 

تبدأ أحداث رواية عالم جديد شجاع Brave New World ــ والتي كتبها أولدس هكسلي عام 1932، ليضع فيها تصوراته عن الحياة في المستقبل، وما سيكون عليه عالمنا بعد أكثر من خمسة قرون ــ داخل ما يُسمَّى بـ (المقر المركزي للتفريخ والتكييف)، ولا تدع كلمة (تفريخ) تخدعك فتظن أن للأمر علاقة بإنتاج البيض أو الدجاج، فما يتم إنتاجه في هذه المنشأة، هو البشر أنفسهم!

فخلال خمسة قرون وتحديدًا في عام 2540 بالتقويم الميلادي، ومع التقدم العلمي السريع الخطى، توصلت التكنولوجيا المتقدمة إلى ضبط حركة الولادة لتصبح عملية فقس بيض في مراكز خاصة لذلك، فلم تعد الأطفال تولد بالطرق الطبيعية، بل يُصنعون في أنابيب اختبار ويُشكَّلون تبعًا لاحتياجات المجتمع، على طبقات أو شرائح اجتماعية تحمل أرقامًا، ألفا، بيتا، جاما، دلتا، آبسلون. حتى نُسي العصر الذي كانت تحمل فيه النساء وتلد، وأصبحت كلمة الأم لا تعني شيئًا بالنسبة للكثرة الساحقة من سكان هذا العالم، وتحمر لها وجوههم كما يحمر وجهك خجلًا عندما تسمع كلمة نابية غير مهذبة. وقد تحرر الناس من إنجاب الأطفال، وأصبحت الممارسة الجنسية غير معقدة مادامت غير مرتبطة بشخص بالذات، ولا تؤدي إلى ارتباط عاطفي أو علاقة شخصية بين الأفراد.

كما انمحى من عالم المستقبل أيضًا المرض والصراع الاجتماعي، وتم استئصال الحرب والفقر نهائيًا، ولم يعد هناك اكتئاب أو جنون أو وحشة أو كرب عاطفي. فالعالم الجديد وجد علاجًا لهذا كله، وأصبح كل إنسان يحصل على ما يحتاج إليه، بل وهناك بالحكومة وزارة تضمن أن تكون الفترة ما بين ظهور الرغبة وإشباعها، أقصر ما يمكن.

لكن هذا العالم الذى يبدو مثاليًا من حيث الظاهر، يخفي وراءه وجهًا آخر قاتمًا مروعًا لعالم آلي، جُرِّد سكانه من إنسانيتهم تجريدًا كاملًا، وحُوِّلوا إلى مجرد آلات وكائنات روبوتية متشابهه، تعيش حالة من السعادة البلهاء، وتبحث باستمرار عن الترفيه والمتع التافهة، وفي سبيل تحقيق تلك الغاية، تم التضحية بالفردية وحرية الإرادة والمشاعر الإنسانية، كما تم تقليص دور العلم والدين والفلسفة، ومنع الفن والأدب، فلم يعد هناك مكان لمثل هذه الأشياء، المهم هو السعادة واللذة، وتجنب كل ما يعكر صفو المزاج.

في المقابل مثلت شخصيات الرواية الاتجاه المضاد لهذا العالم، بعدم توافقها مع الطريقة التي يُدار بها، و فشلها في الانسجام معه، وشعورها بالغربة وعدم الانتماء، ومن ثَم اختيارها للعزلة. فكلها شخصيات حملت الفكر المشاكس على المجتمع الذي تركته وركضت وراء فرديتها، متمسكة بحقها في معرفة الله والحب والخير والحرية وكل تلك الأشياء التي تحدد أهم قيمنا الأساسية ونربطها تقليديًا ببشريتنا.

والحال أن رواية عالم جديد شجاع إنما كُتبت على ضوء أحداث الحرب العالمية الأولى، التي كانت بريطانيا العظمى ـ بلد أولدس هكسلي ـ قد خرجت منها محطمة وفاقدة لجزء كبير من روحها، وخرج منها الإنسان بشكل عام وقد صار رهينة للآلة وللعلم في أسوأ تطبيقاته، لذلك كانت لدى هكسلي أسباب قوية للتشاؤم والتخوف، إزاء التقدم المرعب للعلوم والتكنولوجيا، وإحتمالية أن تهدد التقنية ـ لو خرجت عن حدود السيطرة ـ الحرية، من خلال تأثيرها على الخصوصية الفردية. وهو في ذلك يحذو حذو ﻫربرت جورج ويلز، ومستبقًا جورج أورويل في رواية 1984 وراي برادبوري في رواية 451 فهرنهايت وغيرهما من الكتّاب الذين نظروا إلى التقدم العلمي نظرة شديدة التشاؤم.

وكم كان أولدس هكسلي ثاقب الرؤية وبعيد النظر عندما أدرك هذه الحقيقة بهذه الدرجة من الوضوح وكتب عنها في مطلع الثلاثينيات، فأكثر توقعاته عن التقدم التقني والأخلاق في المستقبل قد تحقق أو في طريقه للحدوث، فمثلًا نحن الآن مهوسون بحبوب السعادة، المشروعة منها، وغير المشروعة، وتغمرنا تقنية التسلية من كل جانب لحدٍ لم يتصوره حتى هكسلي نفسه. يعترينا خوف الشيخوخة ولهذا نتصابى، وأتخمت ثقافتنا بالجنس، وأصبح التسوق هو مكان التنزه الوحيد. نعيش الحاضر و شعارنا لا نؤجل متعة اليوم إلى الغد، طغت الثقافة الهابطه على الثقافة الراقية في كل مكان، وتناسى الناس الماضي، وصرنا نتعقب السعادة حتى القبر.

وما تنبأ به في العلم حدث ما يماثله في السياسة والإعلام، ففي عالم السياسة، ساهمت الثورة التكنولوجية فى تسريع فرص السيطرة والتحكم أكثر مما ساهمت فى رفع سقف الحريات، كما أصبح الإعلام أيضًا لا يكف عن تكرار الأخبار الملفقة، وغسيل أدمغة الناس وتشكيلها وتوجيها نحو اتجاهات معينة.

ورغم مرور أكثر من سبعين عامًا على صدور الطبعة الأولى، نجد أن ذكر هذه الرواية يتكرر بمعدل متزايد والاهتمام بها يشتد، وهي الوحيدة بين روايات وكتب هكسلي التي تحظى برواج في الوقت الحاضر. وعندما توفي أولدس هكسلي في عام 1963، كان اسمه قد اقترن اقترانًا لا ينفصم باسم روايته عالم جديد شجاع وأصبح يتكرر ذكر الاسمين، كلما حدث ما يثير الخوف مما يمكن أن يأتي به المستقبل، ويزداد تكرار السؤال: هل العالم يقترب من الصورة التي رسمها هكسلي للمستقبل، وهل كان محق في تنبوءه بهذه الصورة المخيفة للعالم؟

إرسال تعليق

أحدث أقدم