إعداد: د. وسام الدين محمد عبده
منذ أن أصدر الكاتب الإنجليزي هـربرت جـورج ويلز روايته الشهيرة «حرب العوالم» عام 1898، وإلى اليوم، والسؤال حول احتمالية وجود مخلوقات حية خارج الأرض لا يتوقف، هناك قائمة طويلة بأسماء الأدباء الذين حاولوا الإجابة على هذا السؤال في قصصهم ورواياتهم، وعلى عكس النَّمط السَّائد في مثل هذه القصص، قدَّم مايكل كرايتون في روايته «سلالة آندروميدا» Andromeda Strain الصادرة عام 1969، تصوُّرًا مختلفًا للحياة خارج الأرض، يمكن أن نعتبره رؤيةً خارج الصُّندوق، وأعني بالصُّندوق؛ القوالب الجاهزة لصورة الحياة خارج الأرض؛ وهي صورة «الغرباء» Aliens - المُسمَّى الذي فرضته الثقافة الأمريكيَّة على العالم - العدوانيَّة الشرسة التي تهاجم الإنسان وتعمل على تدميره، وقد عمل على ترسيخ هذا التصوُّر العشرات من الأفلام السينمائيَّة، إلى جانب روايات الخيال العلميِّ الشعبيِّ. وقد أحدثت هذه الرِّواية ضجَّة عند صدورها، وتعتبر واحدةً من أهمِّ أعمال الكاتب التي أسَّست لشهرته في الولايات المتَّحدة - بلده الأم - وحول العالم.
تدور أحداث الرواية حول سقوط قذيفةٍ مكُّوكيَّةٍ - من التي تُرسَل لتحلِّل الفضاء الخارجيَّ ثمَّ تعود - بالقرب من بلدةٍ صغيرةٍ تسمَّى بيدمونت بولاية أريزونا الأمريكية؛ بسبب اصطدام شيءٍ ما بالقذيفة المكُّوكيَّة، ما جعلها تُغيِّر مدارها وتسقط.
يموت المجنَّدان المكلَّفان باستعادة القذيفة فجأة، وتُظهر الصور الجوِّيَّة أن جميع سكان البلدة قد لقوا حتفهم أيضًا؛ ليتَّضح أن المقذوف قد جلب معه جراثيم حيَّة من الفضاء الخارجيِّ، هي التي تسبَّبت في مقتل الجميع، فيتمُّ إعلان إنذار وايلدفاير؛ هذا المشروع الذي يقضي باستدعاء فريقٍ علميٍّ متخصِّصٍ من خمسة علماء، مهمَّتهم هي دراسة أشكال الحياة غير الأرضيَّة، التي قد تأتي إلى الأرض بواسطة سفن الفضاء الأمريكيَّة العائدة، ومواجهة التَّهديدات البيولوجيَّة النَّاجمة عن ذلك.
كان مقرُّ المشروع عبارةً عن منشأةٍ سريَّةٍ في صحراء نيفادا، توجد تحت الأرض، أسفل مبنًى صوريٍّ يتبع إدارة الزراعة. لعدم إثارة الشُّكوك، هذه المنشأة تمثِّل معملًا متطوِّرًا ذي خمسة مستوياتٍ، يستخدمه فريق وايلدفاير، والمكان محصَّنٌ بالوسائل المتاحة كافَّة، بما في ذلك أداةً للتَّدمير النوويِّ الذَّاتيِّ، لمنع حدوث تسرُّبًا للجراثيم.
كانت سلالة أندروميدا أوَّل روايةٍ ينشرها مايكل كرايتون باسمه الحقيقيِّ، وكان قبلها يستخدم اسمًا مستعارًا، وقد كتبها في العشرينات من عمره أثناء دارسته في كلية الطب، واحتلَّت وقتها قائمة صحيفة نيويورك تايمز للكتب الأكثر مبيعًا، كما أسَّست لشهرة كرايتون فيما بعد. وفي الثمانينيَّات أطلق الكاتب الأمريكيُّ توم كلانسي لقب أبو التشويق التكنولوجي على مايكل كرايتون، مشيرًا إلى أنه استحق هذا اللقب لأنه أرسى القواعد العامة لهذا النَّوع الأدبيِّ في روايته «سلالة أندروميدا».
ومثَّلت الرِّواية صدمةً للقارئ وللمجتمع العلميِّ الأمريكيِّ، بسبب أسلوب الرِّواية الذي بدا أشبه بتقريرٍ حكوميٍّ سريٍّ أكثر منه رواية من خيال مؤلِّف موهوب، وهو الأمر الذي دعا الكثير من القرَّاء إلى الكتابة إلى كرايتون يسألونه عما إذا كانت هذه الرِّواية حقيقيَّة أم من بنات أفكاره؟!
أدهشت الرِّواية قرَّاء الستِّينيَّات بما احتوته من تكنولوجيا حديثة كانت مجهولة لهذا الجمهور، مثل؛ المراقبة الجوِّيَّة، والأنظمة الموجَّهة بالصوت، والتفسير الحاسوبي للصور، وأنظمة دعم اتخاذ القرار الطبي والتمييز الرقمي لراحة اليد، وألبسة الوقاية من المخاطر البيولوجية والنووية.
وكان الوقت الذي طُرحت فيه الرِّواية عاملًا مساعدًا في نجاحها، ففي أجواء الحرب الباردة وتهديد التدمير المتبادل بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وقبل أسابيع قليلة من هبوط المركبة (أبوللو 11) على سطح القمر، ثار تساؤل بين الناس حول ماذا لو عاد روَّاد الفضاء من القمر وبصحبتهم جراثيم أو أيٍّ من الكائنات الحيَّة المجهريَّة من الفضاء الخارجيِّ، وبدت حينئذٍ تدابير ناسا للحماية من مثل هذا الخطر ضعيفة وغير فعالة، وظهر كرايتون في التلفزيون ضيفًا على الإعلاميِّ الأمريكيِّ الشهير والتر كرونكايت ليلة هبوط رواد أبوللو 11 على سطح القمر.
وعلى غير العادة مع أعمال المؤلِّفين الأمريكيِّين، سمحت السلطات السوفيتِّيَّة بترجمة الرِّواية إلى اللُّغة الرُّوسية ونشرها في الاتِّحاد السوفيتيِّ، ولم يكن دافعهم وراء تلك الأريحيَّة الفريدة الإعجاب النقديِّ أو الأدبيِّ أو العلميِّ بالرِّواية، بل كان دافعًا سياسيًّا صِرفًا؛ حيث اعتُبِرت الرِّواية يساريَّةً تقدُّميَّةً معاديةً لقيم الهيمنة الأمريكيَّة وعسكرة المجتمع الأمريكيِّ، وعلى العكس من ذلك، اتَّهم بعض النُّقَّاد اليساريِّين من جامعة هارفارد، كرايتون، بأنه يفتقر للحسِّ الخلقيِّ بما أوحاه للعسكريِّين من إمكانات استخدام الأسلحة البيولوجيَّة، وكون الفضاء الخارجيَّ موطنًا محتملًا لأنواعٍ من الكائنات الحيَّة المجهريَّة التي يمكن أن تستخدم كسلاحٍ للقضاء على البشر.
ولم يكن هذا آخر جدلٍ سياسيٍّ بشأن أعمال كرايتون الروائيَّة، بل أصبح سمةً مرتبطةً بأعماله، وعلى رغم من هذا الجدل السياسيِّ، فقد أوضح كرايتون أكثر من مرَّةٍ أنه لا يهتمُّ بالسياسة، وأن كل اهتمامه بالعلم، وأنه أحبَّ أن يعالج مسألة الكارثة البيولوجيَّة؛ لأنها إذا ما وقعت فقد لا يمكن التنبُّؤ بعواقبها أبدًا، وحتى إذا تحرَّزنا من وقوع مثل هذه الكوارث يبقى دومًا احتمال حدوثها قائمًا، ومن الأفضل أن نستعدَّ لها ثقافيًّا عوضًا عن أن نفاجأ بها.