أسمهان ومارلين مونرو.. ترويان قصتيهما




أسمهان ومارلين مونرو.. ترويان قصتيهما
الكاتب: محمود راضي

حياتيهما كانتا قصيرتين، لكن الوقائع التي جرت فيها كانت أكثر من كافية لتصيرا نصب اﻷعين طيلة الوقت، وتحولت مع الوقت إلى مادة درامية بالغة الدسامة لا تنضب، قُدمت من خلال عدد لا يحصى من الوسائط المختلفة؛ ومن بينها الكتب، ولدينا هاهنا كتابين في السيرة الذاتية عن حياتيهما؛ اﻷول عن قصة المطربة الراحلة "أسمهان" كما قدمها الكاتب الصحافي محمد التابعي في سلسلة حلقات صحافية، والثاني عن قصة النجمة العالمية "مارلين مونرو" كما روتها للصحافي بن هكت.

***

أسمهان تروي قصتها

بجانب موهبتها الصوتية والطربية الاستثنائية التي وصلت لدرجة مناطحة "أم كلثوم" في بداياتها المبكرة، لا يخلو منعطف واحد من منعطفات حياة أسمهان على قِصَرها (27 عامًا فحسب) من الدراما، منذ مولدها في عرض البحر على ظهر سفينة فرارًا من السلطات العثمانية، وحتى وفاتها الغامضة غرقًا في ترعة الساحل الواقعة في مدينة "طلخا"، والذي لا يزال يثير التساؤلات حتى اﻵن بسبب الشك في كونها حادثًا مدبرًا، خاصة مع الاختفاء التام لسائق السيارة التي كانت تقلها، كل حدث - بحد ذاته - في حياتها القصيرة جدًّا يستحق أن يكون منبعًا لا ينضب للحكايات على اختلاف أصنافها، سواء الظروف الشخصية التي وجدت نفسها بها، أو اﻷحداث التي صنعتها بنفسها.

أضف إلى ذلك أنها كنت تعيش في ظل فترة زمنية عاصفة شهدت من خلالها جنون الجغرافيا في أقصى أشكاله جموحًا، من خلال سلسلة متتالية من اﻷحداث التي أعادت تشكيل خارطة العالم: الثورة العربية الكبرى ضد جكم الدولة العثمانية، الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي، سقوط الدولة العثمانية وانتهاء نظام الخلافة بلا رجعة، بدايات الصراع العربي الإسرائيلي، الحرب العالمية الثانية، والتي لم تكن مجرد شاهدة أو معايشة فقط لهذه اﻷحداث الجسام، بل كانت شريكة في صناعتها، خاصة في فترة الحرب العالمية الثانية التي لعبت خلالها دورًا بارزًا يعرفه كل مَن قرأ عن حياتها.

وبعيدًا عن صداع السياسة المزمن، فإن حياتها الشخصية نفسها تحمل كم من الدراما لن تعهده على هذا النحو مع أغلب الشخصيات الفنية، ناهيك عن التزام "محمد التابعي" أغلب الوقت بالحيادية في الكتابة عن أسمهان بحكم علاقة الصداقة والخطبة التي جمعتهما لسنوات، ودون أن يقع في أفخاخ الحكم عليها من منطلق الصوابية السياسية والأخلاق المطلقة، حتى بالنسبة لمقاييس هذا الزمن، وهي اﻷفخاخ التي نعاني منها في عصرنا الحالي مع اﻷسف عند تناول أي حدث أو شخصية عامة.

***

قصتي.. مارلين مونرو

تقوم كتب السير الذاتية في اﻷساس على معايشة العالَم واستخلاص تجاربه من وجهة نظر جزئية؛ هي وجهة نظر صاحب السيرة نفسه، مما يجعلها لا تمثل فكرة "الحقيقة" بمعناها الصارم، بل يمكن اعتبارها "نسخة" واحدة من نسخ لا نهائية للحقيقة، ومن هنا يمكن استقبال السيرة الذاتية بهذه الروح دون حسابات كثيرة ومعقدة يصبغها الكثير من المثقفين على كتب السير الذاتية حول تحري الموضوعية وما إليه من حديث لا يمت لقوانين الواقع بِصلة.

ومن ذاتية التجربة المتضمَّنة داخل السيرة الذاتية لمارلين مونرو، تأتي أيضًا نزعة ذاتية بحتة في الاستقبال، وهو أمر لا يملك القارئ مفرًّا منه، خاصة حين يشعر بوجود نواحي من التطابق أو التشابه بين كاتب السيرة وبين مَن يقرأها.

عندما تأخذ مسافة كافية من البريق المنعكس الذي يغشى البصر للصورة اﻷيقونية المنطبعة في اﻷذهان عن "نورما جين" أو مارلين مونرو، تتكشف أمام العين الفاحصة مدى الجوع الذي اجتاح كيانها لتنال التقدير والاعتراف ممن حولها، واﻷمر لا يقتصر على نيل مكانة في عالم صناعة الترفيه، بل على مستوى الاحتياج الإنساني الذي لا ينتهي للخروج من سجون الوحدة والنبذ الاجتماعي، كان على نورما جين أن تخوض رحلة بطول امتداد سنوات عمرها في سبيل أن تشعر بأن وجودها في حد ذاته يشكل فارقًا لمن حولها، وأن هناك مَن يبالي أصلًا بوجودها على الصعيد الإنساني في المقام اﻷول.

ومن هذه الزاوية، نجد وصفها لمشاعر الوحدة والنبذ الاجتماعي على مدار الكتاب حقيقية جدًّا ومؤلمة كأقصى ما يكون إحساس اﻷلم.. قد يحسدك مَن يراك من بعيد على وحدتك تلك، لكنه بالتأكيد لا يعلم أي شيء عن نيرانها المستعرة، خاصة حين تضرب بظلها على كافة المستويات في حياة المرء، إنسانيًّا وعائليًّا واجتماعيًّا وعاطفيًّا، وكل مستوى آخر يتطلب تواصلًا مع البشر، للدرجة التي قد تستلزم من المرء في بعض اﻷحيان أن يتعلم كيف يحب أصلًا، وكيف يستعيد حياته بشكل شبه طبيعي بعد طول بقاء في ظل الوحدة المخيم على النفس.

إرسال تعليق

أحدث أقدم